من قلب السوفييت إلى طرقات العالم: كيف تحولت لادا من رمز شيوعي إلى منافس عالمي بأسعار لا تُصدق؟
في عالم يشهد تغيرات سريعة وانهيارات اقتصادية متتالية، تبقى بعض الأسماء راسخة في الذاكرة الجماعية، لا لأنها نجت فحسب، بل لأنها تحولت وتكيّفت وخلقت لنفسها مسارًا جديدًا وسط العواصف. من بين هذه الأسماء، تبرز "لادا" — تلك السيارة التي وُلدت في حضن الاتحاد السوفييتي، وظلت صامدة حتى بعد انهياره، لتصبح اليوم واحدة من أكثر السيارات مبيعًا في روسيا، ولا تزال تُصنّع رغم الحصار والعقوبات والعقبات المتكررة.
ولادة عملاق من رحم المعاناة
بدأت قصة لادا في مدينة تولياتي، ضمن مشروع ضخم دعمته الدولة السوفييتية لتعزيز التصنيع المحلي. لم يكن مصنع "أفتوفاز" مجرد منشأة صناعية، بل كان حجر الأساس في منظومة اقتصادية صناعية هدفها ترسيخ مكانة الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى. ومن هنا وُلدت لادا 2101، وهي نسخة سوفييتية معدّلة من "فيات 124" الإيطالية، صُمّمت لتتحمل الطرق الروسية القاسية والمناخ المتطرف.
في بداية السبعينيات، تجاوز إنتاج لادا السنوي 660 ألف سيارة، وهو رقم غير مسبوق في تلك الحقبة. ومع حلول عام 1980، ارتفع الإنتاج إلى 2.2 مليون سيارة سنويًا، مما جعل لادا واحدة من أضخم شركات تصنيع السيارات في العالم. كان من المعتاد آنذاك أن ترى لادا في كل زاوية من الاتحاد السوفييتي، حتى أصبحت رمزًا للاعتمادية والقوة الصناعية. توسعت شهرتها إلى أكثر من 100 دولة، وكان يُطلق عليها في أوروبا لقب "السيارة التي لا تموت".
السقوط… ثم النهوض من جديد
لكن، كما هو حال كل الإمبراطوريات، لم يدم المجد طويلًا. مع انهيار الاتحاد السوفييتي في 1991، دخلت لادا مرحلة حرجة. توقّف الدعم الحكومي، وتراجعت المبيعات بشكل حاد، وبدأ المصنع يُثقل بالديون. واجه العمال شهورًا دون أجور، وانخفض الإنتاج بنسبة 40% ليصل إلى 890 ألف سيارة فقط في عام 1994. بدا المشهد سوداويًا، وكأن العملاق الصناعي على وشك السقوط إلى الأبد.
ومع ذلك، لم يكن هذا المصير محتوماً. ففي بداية الألفية، بدأت لادا تُعيد رسم طريقها بذكاء ومرونة. استحوذت مجموعة "رينو - نيسان" على 25% من أسهم "أفتوفاز"، ثم رفعت حصتها لاحقًا إلى 75%. تم إطلاق نماذج جديدة وحديثة مثل "لادا فيستا" و"لادا جرانتا"، واستعادت الشركة جزءًا من بريقها.
وجاءت العودة القوية في عام 2008، حين استطاعت لادا أن تستحوذ مجددًا على 25% من سوق السيارات الروسي، متفوقة على علامات تجارية عالمية مثل تويوتا وفولكسفاغن. لم يكن ذلك مجرد تعافٍ اقتصادي، بل إعلان بأن لادا لا تزال لاعبًا أساسيًا في ساحة المنافسة.
مواجهة العصر الحديث
مع بداية العقد الثاني من الألفية، كانت التحديات التكنولوجية أكبر من أي وقت مضى. صناعة السيارات شهدت ثورة رقمية وتقنية هائلة، ومعها كانت لادا أمام معادلة صعبة: إما أن تواكب العصر أو تتراجع إلى الخلف. فأعلنت في عام 2012 عن استثمارات ضخمة تجاوزت 1.5 مليار دولار لتحديث مصانعها وتحسين جودة الإنتاج. وجاءت النتائج بسرعة؛ ففي عام 2018، وصلت مبيعاتها إلى 360 ألف سيارة سنويًا، مع نمو ملحوظ بنسبة 15% داخل السوق الروسية.
وفي عام 2020، حققت "لادا فيستا سويفت" مفاجأة كبيرة عندما باعت أكثر من 150 ألف وحدة في عامها الأول فقط، مما جعلها واحدة من أكثر السيارات شعبية في روسيا.
صدمة الحرب… ومرونة الرد
لكن التحدي الأكبر لم يأتِ من المنافسة، بل من السياسة. في عام 2022، ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، فرض الغرب عقوبات قاسية على الاقتصاد الروسي. انسحبت "رينو" من السوق الروسي وتنازلت عن حصتها في "أفتوفاز" للحكومة الروسية مقابل روبل واحد فقط — نعم، روبل واحد!
توقّع كثيرون أن تكون هذه نهاية الطريق، لكن لادا أثبتت مرة أخرى أنها لا تنهار بسهولة. استعادت الحكومة الروسية السيطرة على الشركة، واستمر الإنتاج رغم كل شيء. ركزت الشركة على التصنيع المحلي، وأعادت تشغيل مصانعها، وبقيت سياراتها تُباع في الأسواق الروسية والعالمية.
المستقبل الكهربائي: هل تنجح لادا في القفز إلى الجيل الجديد؟
رغم صمودها، تدرك لادا أن مستقبل السيارات لم يعد محصورًا في البنزين أو الديزل. فالعالم يتجه بسرعة نحو السيارات الكهربائية، وبدون تغيير جذري، لا يمكن البقاء في السباق. في خطوة جريئة، أعلنت لادا عن خطة لإطلاق أول طراز كهربائي بحلول عام 2025، مع تخصيص نحو 500 مليون دولار للاستثمار في البحث والتطوير.
قد لا تنافس لادا في المستقبل شركات مثل تسلا أو بي إم دبليو في التكنولوجيا الفائقة أو التصميم الفاخر، لكنها تقدم نموذجًا مختلفًا: سيارة عملية، بسيطة، بأسعار معقولة، والأهم من ذلك… قادرة على الصمود.
لادا، السيارة التي لا تموت
اليوم، تبيع لادا أكثر من 300 ألف سيارة سنويًا، وتظل العلامة التجارية الأكثر مبيعًا في روسيا. هي ليست مجرد شركة سيارات، بل قصة عن البقاء والتكيّف. شركة نشأت في حضن نظام سياسي انهار، وواجهت أعاصير اقتصادية وعقوبات دولية ومنافسة شرسة، لكنها لم تستسلم.
ويبقى السؤال: هل تستطيع لادا الحفاظ على مكانتها في عصر السيارات الكهربائية والمنافسة العالمية المحتدمة؟ الجواب لا يزال مجهولًا، لكن إذا علّمنا التاريخ شيئًا، فهو أن لادا تعرف جيدًا كيف تبقى في قلب السباق.